"مات الجنرال، عاش الجنرال".. الجيش يتحول إلى الحزب الحاكم في الجزائر ورئيس الجمهورية ينقل ولاءه لقائد الأركان
نفس الأيدي التي ضمت الجنرال أحمد قايد صالح بحرارة، تضم الآن الجنرال السعيد شنقريحة بحميمة.. هما صورتان من زمانين مختلفين، وإذا كان المبدأ السائد في الموناركيات التي ينتقل فيها الحكم بالوراثة هو "مات الملك.. عاش الملك"، فإن العداء الجزائري المُعلن لمثل هذه الأنظمة والانتصار الدائم لـ"الجمهورية" تحول إلى "شعار" لا يجد ما يدعمه على أرض الواقع، لأن الرئيس نفسه أصبح يردد "مات الجنرال.. عاش الجنرال"، وقد وجد عبد المجيد تبون نفسه مثالا حيا على ذلك.
وفي بلد عاش سنة 2019 حراكا طويلا لم يُخفف من حدته إلا الشراسة التي وُوجه بها المعارضون ثم انتشار فيروس كورونا، كان الجزائرين يأملون أن ينتهي الأمر إلى تطبيق عملي لشعاري "يتنحاو كاع" و"مدنية ماشي عسكرية"، لكن المؤشرات الظاهرة تؤكد أن الواقع في زمن تبون أصعب حتى من نظيره خلال عقدي حكم الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، لأن من يصنع السياسات والقرارات وحتى الأعداء هو من يترأس الأركان لا من يترأس الجمهورية.
سقوط جنرالات وصعود آخرين
وعقب استقالة بوتفليقة كان يبدو أن الطبقة العسكرية الحاكمة في الجزائر آخذة في الزوال، إلا أن ما فند ذلك هو أن الرجل الذي أمسك بالسلطة عمليا لم يكن سوى رئيس أركان الجيش حينها أحمد قايد صالح، الذي شن حملة واسعة ضد خصومه العسكريين الذين كان كثير منهم محركات حقيقية لأحداث العشرية السوداء، على غرار الرجل الأقوى حينها خالد نزار، الذي فر إلى إسبانيا في الوقت الذي ظل يطارده حكم قضائي غيابي بالسجن النافذ لـ20 عاما بتهمة التآمر على سلطة الدولة.
وبسيناريو مختلف وجد مدير المخابرات والأمن لربع قرن، الجنرال محمد مدين الشهير بـ"توفيق" نفسه أيضا مطاردا قضائيا، وهو الذي اعتُقل خلال الحراك، ومعه ألقي القبض أيضا على خليفته على رأس جهاز المخابرات الجنرال البشير طرطاق، ليُحكم عليها بالسجن النافذ لمدة 15 عاما بتهمة المساس بسلطة الجيش، وحينها كان مشهد سقوط الجنرالات المتتالي حدثا غير مألوف لدى الجزائريين، لكن الأمر لم يكن سوى عملية تبديل وإحلال لوجوه جديدة تخلف القديمة وليبقى الحكم بيد العسكر في نهاية المطاف.
انبعاث جنرالات العشرية السوداء
وفي دجنبر من سنة 2019، لم يكن الحدث الجلل هو انتخاب تبون رئيسا للجمهورية، بل ما سيحدث بعد ذلك بأيام، حين أُعلن عن وفاة الجنرال قايد صالح بشكل مُفاجئ في واقعة لا زال العديد من المعارضين الجزائريين يصفونها بـ"عملية الاغتيال" إلى اليوم، ومع وصول السعيد شنقريحة إلى منصب قائد أركان الجيش سيكون على تبون أن يُعلن ولاءه التام لهذا الأخير ومعه كل السلط في البلاد بما فيها السلطة القضائية التي شرعت في إعادة خلط الاوراق مجددا ليصبح المدان بريئا بجرة قلم.
وهكذا، سيُلغى حكم الإدانة الصادر في حق الجنرال نزار في 18 دجنبر 2020، وبعدها بأيام عاد إلى الجزائر عبر طائرة خاصة وجرى استقباله في مطار عسكري وبتحية عسكرية، وفي 2 يناير 2021 سيحصل الجنرالان توفيق ومدين على صك البراءة وسيُغادران السجن، في الوقت الذي شرع فيه شنقريحة بالتخلص من تركة القايد صالح بشكل شامل، لتبدأ عملية إحلال وتبديل أخرى في الاتجاه المعاكس هذه المرة، حتى وجد تبون نفسه محاطا بجنرالات زمن العشرية السوداء.
"ريمونتادا" زمن شنقريحة
وكان مشهد تبون وهو "يترأس" النسخة الأخيرة من المجلس الأعلى للأمن أول أمس الأربعاء، إحدى أوضح المشاهد على أن لا صوت يعلو على صوت الطبقة العسكرية في الجزائر، فالرجل وجد نفسه محاطا بالجنرالات المقربين من شنقريحة، والأغرب كان هو حضور الجنرال جبار مهنا، الذي عُين قبل 3 أشهر فقط رئيسا لمديرية مكافحة الإرهاب، وهم الذي كان قبلها بسنتين يتابع قضائيا في محكمة عسكرية بتهمة الإثراء غير المشروع والتعسف في استعمال السلطة، وإلى جانبه حضر الجنرال عبد القادر آيت واعرابي الشهير بـ"حسان"، بعد أن قضى حكما بالسجن 5 سنوات بتهم تتعلق بالفساد، لتتحقق دعوة الجنرال توفيق الذي كان قد دعا إلى "تصحيح خطأ سجنه" سنة 2015.
وفي مقابل ذلك، كانت رجال القايد صالح يتساقطون تباعا، وأبرزهم ثالث اسم في تراتبية الجيش، الجنرال محمد قايد الشهير بـ"المنجل"، الذي عُزل من مهامه كرئيس لدائرة الاستعمال والتحضير بالقوات المسلحة، المنصب الذي وصل له بعد أن كان أحد المشاركين في الإطاحة بكبار الجنرالات مثل توفيق وطرطاق التي أطلقها القايد صالح، ليجد نفسه مهددا بمصيرهم بعدما مُنع من السفر وفُرضت عليه "الإقامة الجبرية" بشكل غير رسمي، وهو الذي كان الإعلام يُصوره كمتزعم لحملة محاربة الفساد في صفوف الجيش.
قائد الأركان: رئيس الرئيس
وإن كانت كل تلك المعطيات لا تكفي لإبراز من يحكم الجزائر حقا، فهناك مشاهد أخرى ذات دلالات رمزية أكدت أن موقع تبون في سلم السلطة هو الثاني بعد رئيس الأركان، على غرار انتقال الاثنين معا لـ"عيادة" زعيم جبهة "البوليساريو" إبراهيم غالي إثر عودته من إسبانيا منتصف العام الماضي، وحينها تولى شنقريحة الترحيب به بحرارة، والمشهد الأوضح كان عندما استقبل الاثنان المنتخب الجزائري العائد من قطر بعد تتويجه بكأس العرب، حيث توسط الجنرال اللاعبين وتقدم على رئيس الجمهورية ليحمل الكأس في صورة للذكرى.
وعمليا أصبحت المؤسسة العسكرية هي التي ترسم سياسات الجمهورية ومن يتحكم في علاقاتها الخارجية، لدرجة أن خطاب تبون بخصوص الصراع مع المغرب مثلا وقضية الصحراء وحرائق غابات القبائل، لا تكاد تختلف ولو قليلا عن خطاب شنقريحة، أما مجلة الجيش فأصبحت تلعب دول الناطق الرسمي باسم الدولة، وفي الوقت التي يُفترض فيه في القوات المسلحة أن تنأى بنفسها عن الممارسة السياسية، أضحت هي بوصلة المواقف الرسمية من كل القضايا داخلية كانت أم خارجية.